بين ركام المنازل وخيام النزوح، يعيش سكان قطاع غزة واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في العصر الحديث.
المجاعة لم تعد شبحًا يلوح في الأفق، بل واقع يومي يحصد أرواح المدنيين، وسط حصار محكم ونقص حاد في الغذاء والدواء، وعمليات قتل ممنهجة عند نقاط توزيع المساعدات.
منذ أكثر من عشرين شهرًا على بدء الحرب الإسرائيلية على غزة، تتوالى مشاهد المجاعة والدمار في القطاع، في ظل تراجع شبه كامل لتدفق المساعدات الإنسانية.
وتُشير تقديرات وزارة الصحة الفلسطينية إلى أن 111 فلسطينيًا لقوا حتفهم نتيجة الجوع خلال الـ24 ساعة الماضية فقط، بينهم أطفال ورضع لم يجدوا ما يسد رمقهم.
منظمة الصحة العالمية أكدت أن سكان غزة يعانون من «تجويع جماعي من صنع الإنسان»، مشيرة إلى أن الأطفال يبكون ليلًا من الجوع، وأن مواقع توزيع الطعام تحولت إلى «أماكن للعنف والموت».
قبل اندلاع الحرب في أكتوبر 2023، كانت غزة تعتمد على دخول نحو 500 إلى 600 شاحنة مساعدات يوميًا.
اليوم، بالكاد تدخل 28 شاحنة وسط عراقيل إسرائيلية مكثفة وتأخير في التفتيش، ما جعل السكان عاجزين عن الوصول إلى احتياجاتهم الأساسية.
السبب الرئيسي وراء هذا الانهيار في منظومة الإغاثة يعود إلى الحصار الشامل الذي فرضته إسرائيل عقب هجوم 7 أكتوبر، حيث قطعت الكهرباء والوقود والغذاء عن كامل القطاع، في ما وصفته منظمات حقوقية بأنه «عقاب جماعي» وجريمة محتملة ضد الإنسانية.
مع تفاقم الأزمة ونقص الأمن، تفكك النظام المدني في غزة، ما سمح بظهور جماعات مسلحة استغلت غياب الشرطة لنهب شاحنات الإغاثة أو بيع المساعدات في السوق السوداء.
الأمم المتحدة حذّرت مبكرًا من انهيار المنظومة المجتمعية، وأعلنت في نوفمبر 2024 أن قدرتها على إيصال المساعدات «تلاشت بالكامل».
في مايو 2025، بدأت مؤسسة «GHF» المدعومة من إسرائيل والولايات المتحدة بإدارة عمليات توزيع المساعدات، بعد حظر عمل وكالة «الأونروا» في القطاع.
المؤسسة الجديدة، التي رفضت الأمم المتحدة التعاون معها، أقامت عددًا محدودًا من مراكز التوزيع في جنوب ووسط غزة، ووضعت إدارة الأمن بيد شركات خاصة.
لكن بدلًا من تحسين الأوضاع، تحوّلت هذه المراكز إلى بؤر للموت، حيث تم توثيق مقتل المئات من المدنيين أثناء محاولتهم الحصول على الطعام، برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي أو نتيجة التدافع والفوضى.
المدير السابق للمؤسسة، «جيك وود»، استقال قبل انطلاق عملها بأيام، مؤكدًا أنه من «المستحيل تنفيذ المهمة دون انتهاك المبادئ الإنسانية الأساسية».
المجتمع الدولي بدأ يرفع صوته، إذ أصدرت 111 منظمة إنسانية بيانًا تطالب فيه بوقف فوري للحصار الإسرائيلي على غزة، محذّرة من أن المساعدات «نفدت بالكامل»، وأن العاملين في المجال الإنساني «ينهارون أمام أعين بعضهم البعض».
كما وجّه وزراء خارجية 25 دولة غربية انتقادات لاذعة لإسرائيل، متهمين إياها بـ«تقطير المساعدات» بطريقة غير كافية.
لكن الخارجية الإسرائيلية رفضت البيان، واعتبرته «منفصلًا تمامًا عن الواقع».
في الوقت الذي تستمر فيه القوات الإسرائيلية في عملياتها العسكرية، لا تزال الحكومة الإسرائيلية ترفض تقديم خطة واضحة لمستقبل الحكم في غزة.
وفي ظل غياب الأفق السياسي، والانهيار الكامل للخدمات، وتحوّل نقاط الإغاثة إلى ساحات موت، يقف الفلسطينيون في غزة أمام خيارين لا ثالث لهما: الموت جوعًا أو الموت تحت القصف أو الرصاص.